lundi 30 mars 2015

قصة الأندلس

قصة الأندلس
رُندة
أيتها الغافية فوق القمم الشامخة ... النابضة في عمق السماء ... تتدلين كعناقيد العنب على السفوح وتنسابين بين حواف الوديان وأطراف الكهوف ... على شطآنك تحتفل الغيوم ... وبين أحضان الشجر تتأرجح العذراء تنتظر الوليد، وعلى ضفاف النهر تفترشين اشرعة الخيال ... سامقة أحلامك ... خذيني إليك وأزرعيني في الدروب وأحتفي بي كيما أعود...
تُطالعني السحب السادرة في السماء بين القمم السامقة ... تتخللها أشعة الشمس الذهبية وإلى الشرق يبدو الشاطئ الذهبي مفترش الأفق يكلله الحرير الأزرق اللآزوردي ليعبر في سكون الصمت أرض التيه ويخترق السماء ... وعلى مقربة مني تنهدت وهي تنظر إليَّ بطرفها تتقلب في غنجٍ على السرير ... وعلى الغصن الملتحف بأوراق الربيع عصفور يهدهده النسيم.
إنها رُندة حاضرة من الماضي المجيد، تحتفل لوجودها الأزهار عند الفجر بالندى المنسكب على أوراقها الصفراء، وتحتضنها السماء عند الأمسيات، وتجوب بها بلاد الأندلس كعروس ابت الوداع عندما أزف الرحيل.
وغداً ستنتقلُ أشرعتي كي أختلي بكلٍ فجٍ عَطَّرهُ أريجَ الزهر ورحيق الليمون وفيح الياسمين، فأشجار الزيتون تغرس جذورها متأصلة في جسدك الغافي منذ مئآت السنين، وتمد على التكايا الجبلية أوصالها كخطايا بني آدم في العيون، هناك ودِّعيني لأنقلب في عودتي زائراً للكون، لا تسأليني إن انهمر من عيوني الدمع، ولا تسمعي صوت النحيب إن جاب الحقول، فأنا وليدٌ يا رُندة في الزمن الذي من بَدئِهِ وُئِدَ الوجود.

أشهر القيظ في الكويت لا تُحتمل والكثير من سكانها يغادرونها إلى بلاد عدة للسياحة والإستجمام، وكنت قد أعددت رحلة مشوقة لزوجتي تلك التي سلبت مني الفؤاد ومنحتني بدلاَ عنه أربعة أولاد كبيرهم في الثامنة عشرة وصغيرهم مازال يتعلم الكلام، وفي إحدى الأمسيات الصيفية وكنا قد إتفقنا على اللقاء في إحدى الفنادق لتناول العشاء، بعد يوم عمل مضني ومجيئي من رحلة قصيرة إلى أوروبا كعادتي في كل شهر
-         هه مارأيك برحلة لمدة شهر إحتفاءاً بقدوم عيد زواجنا القادم
-         إلى اين...هذه المرة؟
-         أفكر بالذهاب إلى لندن ومن بعدها إلى أسبانيا فالمغرب وألمانيا ومن ثم العودة للديار
-         ألآ تبدو رحلة طويلة بعض الشيء
-         لا مجرد شهر، هه ما رأيك؟ أنا وأنت فقط
-         شهر كثير يا أحمد، لما لا نجعلها إسبوعين ونأخذ الأطفال معنا
-         لا، لتكن شهر أنا وأنت فقط
-         لِما، ولمن سأترك الأطفال؟
-         أي أطفال، أتقصدين محمد، تستطيع الوالدة الإعتناء به أو أختك كما أن المربية موجودة
-         لكنه مازال صغيراً، ألآ أستطيع أن آخذه معي؟
-         حبيبة هو أو الجميع الحال واحد، كنت أفكر بالإبتعاد قليلاً عن ضجيج الأطفال، ألآ نستحق بعض الراحة من العمل والمنزل، أنا أحتاج لبعض الراحة حبيبة، ألم نأخذهم معنا في كل رحلاتنا السابقة؟
-         نعم أعلم يا أحمد، طيب دعني أخطط للأمر، لأرى ما سيكون
-         على العموم أطلبي إجازة من العمل في الغدوسنرى كيف يكون الأمر، لكن السفر سيكون في الأسبوع القادم هه
-         على بركة الله

من الصعب على المرأة عدم الموافقة على السفر والإستمتاع بمباهج الحياة وخاصة رحلة كتلك إلى أوروبا فالسفر السياحي متعته تفوق الخيال وخاصة إن أحسن المرء إختيار ما يناسبه سواءاً من ناحية المدن أو الفنادق كلٌ حسب قدرته المادية.

هيثرو أكبر المطارات الأوروبية قاطبة يقع في مدينة لندن العاصمة البريطانية أم أنها عاصمة الضباب الشريان الموصل ما بين قارتي أوروبا والأميركيتين وصلنا إليها في يوم من ايام أغسطس المشرق دائما والموحي بالقيظ نسبة للخليج العربي لكن الوضع في لندن يختلف نهاراً أو ليلاً، في العادة لا نأتي لمدينة لندن إلآ للعمل أو للتبضع من محلاتها المشهورة في شارع الأكسفورد ونعتبرها السوبرماركت السنوي للملابس فكل أهل الخليج يقومون بهذا الأمر مع انني أفضل التسوق من روما أو نابولي لكن لزوجتي رأي آخر أحببت موافقتها عليه إذ أنه لا يضيرني طالما هي سعيدة برأيها، أمضينا يومين في العاصمة لندن ومن بعدها توجهنا إلى ملقا في الجنوب الإسباني وتحديداً بلاد الأندلس منها بعد أن قمنا بشحن مشترياتنا جواً إلى الكويت.

للأندلس سحرها الخاص وحميمتها العربية، لا أظن أن عربي ما لا يحب زيارتها ولو لمرة في العمر إذ أنها تذكار من الماضي العربي الجميل في حاضره، كأنها دعوة من الأجداد للتأسي بما كانوا عليه من تقدم علمي وثقافي وحضاري فاق كل الأمم مجتمعة في ذلك العهد الذهبي للعرب والمسلمين في العالم.

توزعت نظراتنا بين موظفي المطار إذ جلهم لا يختلفون عن الجنس العربي أو السامي بمعنى آخر باي شيء سوى باللغة التي يتداولونها ولم أكن من المطلعين على هذه اللغة التي أحسبها سهلة لكنني لم أتعلمها يوماً، مع أنها اللغة الأكثر إستخداماً بعد اللغة الإنجليزية وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، لكن عدم معرفتي للغة لم يكن عائقاً في هذه المنطقة الحبيبة إلى قلبي فالإنجليزية مستخدمة بشكل واسع في طرقاتها وكتب التعليمات والخرائط التي إشتريناها للمناطق التي نريد زيارتها.

الخطة التي وضعتها لم تخلو من سذاجة إلآ إنها بدت بالنسبة لي معقولة حيث أنني قررت الإتجاه إلى ماربيا وإتخاذها نقطة البداية والعودة ذلك أني حجزت في منتجعها المشهور غرفة لمدة ستة وعشرون يوماً بدأ من الليلة لكنني والحق يقال لم اقم بحجز أية غرف في فنادق أخرى لأي مدينة أو بلدة سنقوم بزيارتها معتمداً على حظي أولاً .. وثانياً روح الفكاهة والمغامرة التي أحبها وتروق لي في حلي وترحالي وخاصة إن كنت متوجهاً للسياحة لوحدي لكنني لم أجرب هذا الأمر مع أم أطفالي ورفيقة سياحتي هذه المرة ...


ماربيا معروفة لأهل الخليج، منتجعاتها فنادقها شواطئها تؤمها معظم الطبقات الخليجية الميسورة الحال بسبب غلائها نسبة لغيرها من المدن الأندلسية وموقعها المميز، كما ويعتبر ميناءها البحري المسمى بورتوبانوس الواقع على أطراف مدينة ماربيا موطن لليخوت الخليجية والعالمية، لذا كان من الطبيعي رؤية أفخم اليخوت العالمية تحجز لها مرابض بشكل سنوي في ذلك المرفأ وفي كثير من الأحيان نلتقي بالعديد من الممثلين المشهورين والوزراء وحتى رؤساء وأمراء  متواجدون قرب يخوتهم يحيط بهم حراسهم أو في قاعة المزاد الموجودة على الساحة التجارية المطلة على اليخوت مباشرة إذ لا تفصل بينهما سوى بضعة أمتار، ومما ساعد على شهرة هذا المرفأ التنافس الكبير القائم بينه وبين إمارة موناكو فالغلاء المتفاقم في موناكو جعل من هذا المرفأ الجميل والتسهيلات التي يقدمها مقصداً لأثرياء العالم ممن يملكون يخوتاً.

بالنسبة لي كانت المتعة في مشاهدة هذه اليخوت والتي في بعض الأحيان يبلغ ارتفاعها ثلاثة أو أربع طوابق تتوزع على غرف سكنية وقاعات إستقبال وربما قاعات للإحتفالات وغيرها ممن لم اشاهده بنفسي لكني بطبيعة الحال شاهدت الكثير منها رابضاً هنا وهناك وكأنها بلدة عربية تموج بالأثرياء وتقع في أوروبا.

المنتجع يقع على هضبة ويشرف على العديد من ملاعب الجولف التي أشتهرت بها ماربياً كما الكثير من الفلل الصغيرة التي يملكها مواطنو المملكة المتحدة ويعود ذلك للقائمين على المدينة السياحية حيث أنهم يعرفون حب الإنجليز لهذه اللعبة وبما ان ماربيا تحفل بالسهول والأراضي التي تصلح لإقامة مثل هذه الملاعب فقد تم إستغلالها كمورد سنوي دائم لجذب مواطني المملكة المتحدة إليها على مدار السنة إذ يندر أن لا تجد رجل أعمال بريطاني لا يملك منزلاً لقضاء عطلة نهاية الإسبوع في هذه المنطقة الجميلة، كما أن الخدمات العديدة التي يوفرها المنتجع سواءاً من الناحية الصحية التي تتوزع على الطب الصيني وما يتضمنه من الأعشاب والإبر والتدليك بأنواعه المتعددة كالصيني والهندي والياباني.. وبالطبع هناك خدمات رياضية متنوعة كالجولف والتنس الأرضي والسباحة وغيرها من الالعاب المختلفة التي تحفل بها الصالات المغلقة الموجودة في المنتجع...

الكثير من رواد هذا المنتجع يشتركون في دورات متخصصة لتخفيض الوزن وغيرها من الدورات وبما أن زوجتي ترى بأنها أصبحت بحاجة كغيرها من نساء الخليج للدخول بهذه الدورات لتخفيض وزنها فقد إشتركت بإحداها فما أن دخلنا إلى بهو الفندق الكبير وشاهدت الإعلان عن هذه الدورة حتى سرت سروراً كبيراً بها، مما يعني أننا سنضطر مرغمين إلى تعديل الخطة التي وضعتها والرضوخ لمواعيد الأخصائي بتخفيض السمنة... وبالطبع لم يكن هذا هدفي من هذه الرحلة السياحية إذ إنها لم تكن رحلة إستجمامية ولم تكن على خاطري لذا فقد وافقت على أن تتلقى هي التعليمات وحضور الجلسة الأولى ومن ثم أن تتلقى باقي التعليمات إن وجدت بالفاكس حسب مناطق تواجدنا التي لا نعلم عنها أي شيء حتى الآن... لكنني شجعت زوجتي على المضي في لعب التنس الأرضي معي كون هذه اللعبة الرياضية ممتازة لتخفيف الوزن بل ولجعل الدورة الدموية في أحسن حالاتها وتحرق العديد من السعرات الحرارية ... وبالفعل ففي أول ثلاثة ايام قضيناها في المنتجع كان لنا خطة تقضي بأن نستيقظ من النوم مبكرين والذهاب لملعب من الملاعب المنتشرة في المنتجع للعب التنس لمدة ساعة ومن بعدها الإستحمام وتناول الإفطار حسب الخطة الموضوعة لها من قبل الأخصائي وبعد ذلك القيام بجولتنا المتنوعة التي وجدنا بها متعة كبيرة جداً... 

التجول في ماربيا أبان الفترة الصباحية لا تخلو من المتعة وخاصة الدخول إلى منطقة ماربيا القديمة الأندلسية حيث تطالعنا الشرفات والمشربيات القديمة التي مازالت على حالها منذ إنتصار القوات القشتالية على العرب المسلمين الذين إستوطنوا هذه الأرض لمئات من السنين ... وكأنه الحنين الذي يغزو القلب والدفئ حينما ترى نفسك في أوروبا وكل حجر أمامك ينطق بذكريات حميمة فهنا كان مسجداً يعتمر بالمصليين ويؤذن به للصلاة وحناجر المؤذن تصدح بذكر الله قد تحول إلى كنيسة مازالت جدرانها تأبى الإعتراف بأنها قشتالية بل تؤكد بأنها عربية وإسلامية الصميم وبيوت ودور عديدة على أطراف الساحة الرئيسية في المدينة القديمة وحاراتها وزواريبها تهمس بأذنك وتخبرك بأن من بناها هم من المسلمين وأن من قطنها هم من العرب والبربر حيطانها تحيط بها الآيات القرآنية وعلى ابوابها في الأعلى نقش باسم المالك الأصلي الذي بناها مازال على حاله لم تغيره السياسات ولا الجيوش المنتصرة ولا بدلته الدموع أو الدماء التي سفكت هنا وهناك ... أنه أمر جميل لكنه مشبع بالحزن أن تمر في خلدي هذه المآسي وأن أرى أمام عيناي نتائجها التي دمرت في لحظة ألم ما كان يعتمر الفؤاد من سعادة وما تشبع فيه من بهجة وحبور.

في وسط الساحة فسقية تعلوها أربعة رؤوس لأسودٍ منحوتة من المرمر الأبيض المشرب باللون الأخضر تنطلق من أفواهها المياه وحمائم يغدين ويلهين هنا وهناك وهن يلتقطن ما يرمي به رواد المقاهي والمطاعم الصغيرة المنتشرة حول الساحة حيث جلست وزوجتي هناك لتناول بعض المشروبات وتبادل الأحاديث
-         ما بكَ؟
-         لا شيء ... لما؟
-         وكأنك منزعج من أمرٍ ما
-         ساءني ما رأيت هناك ... الكنيسة وهذه المنازل والدور الجميلة
-         وما ساءك بها ... ألم تقل بأنها جميلة؟
-         نعم ... لا أدري لماذا تخايلتها كأصوات صراخ قادم من الماضي ... هل تعلمين أنها تتحدث العربية
-         ههههههه عن ماذا تتكلم يا رجل؟ ما الذي يتحدث العربية؟
-         إنها المنازل ... الجدران ... تلك الدور التي رأيناها قبل قليل ... كانت تخاطب قلبي ووجداني وأراها ببصيرتي تتألم ... كأنها تتوسل لي أن أنقذها مما هي به
-         تتحدث إليك؟(تنظر إليَّ بتهكم) ما بك .. دعك من المزاح
-         أي مزاح ... أنا منزعج لأجلها .... حسناً ... لا شيء هلا نسيتِ الأمر ... 
-          أنظر إليَّ ... نحن جئنا هنا للتمتع أليس كذلك؟
-          نعم معك حق ... لننسى الأمر لو سمحتِ، هل تريدين تناول الطعام هنا أم في مكان آخر
-          أنا من أقل لننسى الأمر وليس أنت
-          وماذا تريدين الآن؟
-          لا شيء ... لننسى الأمر
-         ...... لا بأس 

ماذا تظن بي ياتُرى؟ ... ألم ترى بعينيها ما رأت عيناي ألم تسمع أذناها ما همست به الدور لي أم لم تهفو أنفاسها لعبق الماضي؟ حضارة الأجداد .... أم تراني أتخايل الأمر برمته ... لكني سمعت النحيب يخترق وجداني وتألم الجدران .. يملئ كياني .. ماذا اصابني ... ألوثة من الجنون أم أنه الجنوح إلى ذكريات الماضي ما أعاني

لمساء ماربيا سحره الخاص فإليه تنساب الحسان من كل حدب وصوب يسبحون في نهاره ويجوبون ليله يحتفون بأنواره المشعة في الظلام فهناك قرب البحر على الشاطئ ترى المآدب عامرة بالراقصات على الرمال الناعمة يتلاعبن بقلوب الشباب بأعينهم الكسالى ونهودهن البارزات فيما يتسابق الجميع لخطب ودهن والرقص معهن والكل سعيد مبتهج فليلها طرب وغناء .. لعن الله النساء كم أنهن غواني ... كلمة القاها اللسان فيما نحن نعبر الطريق من أمام الشاطئ صوب الأسواق ... وليتني حفظتها بالقلب أو أودعتها النسيان فما كان من أم البنين إلآ أن سألت لما هذا الكلام ... وهي تعلم لِما لكنها تريد أن تؤكد لنفسها ولي بان عين الفقير لله رأت الراقصات وهن يُلهبن العيون ويؤججن قلوب الرجال
-         يعني قول يُقال يا أم محمود
-         هل تحسبني عمياء؟ أتحسب أنني لم أرك وأنت تتلصص على النهود الراقصات... لماذا لا تذهب وتقف لترى هناك؟
-         أستغفر الله ... هل تعلمين أني من هؤلاء؟
-          هه ... هؤلاء ... عن من تتكلم؟ عن الرجال ... نعم ألست منهم؟ ألست رجل؟
-          لا حول ولا قوة إلآ بالله
-          لأقل لك امراً ... صدق من قال أن عيونكم لا تملئها إلآ الرمال... 
-         نعم صدقتِ بهذا الأمر
-         ما بك ... هل تستهزء بي؟
-         حاشا لله ...لا ... لا والله ابداً ... لنمضي الآن فقد تأخرنا على العشاء 

ليلة الأمس جاءتنا دعوة لقضاء أمسية في المنتجع ... سهرة إحتفاء برواده وأخبرنا القائم على الأمسية بأنه سيكون هناك رقص أندلسي يعبر عن مآسي الحروب التي دامت لسنوات مريرة وهي أي الأمسية ستحفل بلوحات غنائية راقصة وتعبيرية تتحدث عن مأساة الحرب التي وقعت منذ أمد بعيد وأعطاني كُتيب عن الأمسية وفيه ترجمة لجميع اللوحات الإستعراضية والغنائية وفي الحقيقة كنت منسجماً مع حضور هذه الأمسية لأطلع من خلالها على الفولوكلور الإسباني والأندلسي منه خاصة لأتعرف على طبيعته عن قرب وأتلمس جوانب الحياة الفنية والثقافية لهذا المجتمع الذي يعيش في هذه الأرض التي احببتها منذ أن وطأت قدماي أرضها وشعرت بدبيب الحنين إليها وكأنني أعود إليها بعد غياب إمتد لقرون عديدة ... وها هي رفيقة رحلتي وأنا نتناول العشاء في الهواء الطلق وأمامنا المسبح الكبير وعلى جانبنا الأيمن المسرح الذي أعد خصيصاً للإحتفال بهذه الأمسية المجانية المقامة على شرف رواد المنتجع ... كنت أرى على سيماها الفرحة والدهشة تغمرها كل ما سمعنا ضربات الأقدام على الأرضية الخشبية التي أعدت بعناية لأجل هذا الأمر ... إنها أغنية حزينة تنادي بها امرأة زوجها وتستحلفه العودة إلى حضنها وأولادها وأن لا يتركها ويذهب للحرب وبين يديها أطفال صغار محتاجين إليه .. لمن تتركنا تغص في بكائها قائلة ... تناجيه مرات ومرات وتذكره بلياليها معه وهو يعب من كأس المدام ممتطياً صهوة خيله غير عابئ بها ... ينشد المجد الذي من أجله خلق الرجال ... وبعد ايام ثِقال يأتيها خبر موته فتضم إليها أطفالها الصغار والدمع يملئ عينيها وتنزوي بركنها قابعة لا تعرف مصيرها والأطفال
-         لا أحد يحب الحروب، لكن الملوك إذا دخلوا قرية
-         نعم سيد سليمان الحكيم، لولا الحروب لما كان هناك حضارة، ولما كانت هناك أمم فانية وأمم باقية، إنها الحياة
-         ألآ يستطيع الإنسان الحياة دون حروب؟، لأقل لكِ أمراً
-         قل، أتحفنا بالحِكَم
-         لا أنا جاد في هذا الأمر، كم عمر الإنسان على هذه الأرض؟
-         ملايين السنين، ألآف، لا أعلم، ما المهم بهذا
-         لا، أقصد كم سأعيش أنا، أنت أو اي منا، بضعة أعوام لنقل مائة سنة هه
-         أنا لن أعمّر لكن أنت لنقل مائة، لكن ما الأمر الجلل؟
-          طيب لماذا لا نقضيها بسلام، لما لا نجعل منها حياة هانئة نعيش بها نتمتع بخيراتها
-          يا مستر أفلاطون، أنت تبحث عن مدينة غير موجودة، ماذا تسمونها نعم المدينة الفاضلة، إنها اسطورة
-         حبيبة المدينة الفاضلة تعيش بنا ومن خلالنا كبشر، المدينة الفاضلة ليست ابنية ودور، لا ابداً، المدينة الفاضلة مجتمع يسوده الأمن والإستقرار، الوفاء والفضيلة، ما أقصده هو الأخلاق، وبالتالي الإسلام فالمسلم لو اتبع دينه حقاً فهو سيمثل المدينة الفاضلة، ألست معي بهذا؟
-         وماذا عن الديانات الأخرى؟ أليس بها أخلاق وقيم و...
-         لا أنا آسف لم اقصد الطعن بالأديان بكلمتي عن الأخلاق، يبدو أنني تطرقت للأمر من منظوري الخاص، عموماً ما أعنيه حبيبتي هو لو أننا إتبعنا الأخلاق والتعامل بالقيم الإنسانية الخالية من المادية لجعلنا من أنفسنا المدينة الفاضلة وعندما نصل لهذا فبالتأكيد سينتفي الحاجة للحروب وغيرها من المآسي
-         (ضاحكة)، ألم أقل أنك افلاطون، أم أنك سقراط هذا الزمن وأنا لا أعلم؟ كُل، كُل طعامك قبل أن يبرُد

لكن الراقصة التي حضرت وهي تدعوني لمشاركتها في الرقص منعتني من إكمال الطعام كما أن زوجتي حثتني على مشاركة الراقصة وفي عينيها بريق إنتصار ما، لكنني كنت أعلم بأنها لن تدع هذا الأمر يمر دون عقاب إذ أنها (زوجتي) من النوع الغيور جداً والذي لا يثق ابداً بصنف الرجال ولديها العديد من الأمثلة التي تؤكد على صدق قناعتها بأن الرجال لا يؤمن جانبهم أبداً، رأيتها تضحك وانا متوجه للمسرح ويبدو أنها تعلم بأنني خائف من عقابها المنتظر وهو على الاقل توبيخات كعادتها وتأكيدٌ بأن ما قمت به لا يدل إلآ على أن الرجال عيونهم تغزل على النسوان، ولا يملئها إلا الرمال، وأثناء ضربات أرجلي على الأرض رأيتها وهي تمد ذراعها اسفل المائدة وتقوم يدها بحركة تدل على أنها ستريني الويل في عز الليل كما يقال لكنها والحق يقال أكملت الأمسية بلطف لا مثيل له لم أجده منها منذ سنوات، ماذا تخبئ لي يا تُرى، لم يخب ظني بها فما أن دخلنا إلى غرفتنا إلآ وصممت على العودة إلى الكويت وأنها لن تستطيع إكمال رحلتها مع رجل مثلي لا يؤمَن جانبه وتطلب مني الإتصال والإستعلام عن طائرة للعودة
-         أريد العودة، أنا بصراحة لا آمن على نفسي البقاء معك بعد الآن، ترقص معها؟ أين الأخلاق يا رجل أين؟
-         طيب وما ذنبي أنا؟ ألم تخبريني وأنت تبتسمين بأنك تريدين مني مرافقتها للرقص وتحثيني عليه
-         نعم كنت أختبرك، لكنك رسبت بالإختبار
-         أنت من دعاني للقيام معها وأنا ما كنت أريد ذلك، كنت محرجاً
-         هه عيني في عينك، إنظر جيداً من لا يريد الذهاب لا يذهب، أخلاق حميدة ومدينة فاضلة، وتراقص الغواني، لقد جعلت من نفسك ومني اضحوكة، كان يجدر بك الإعتذار والبقاء في مكانك
-         سامحك الله عموماً، حسناً في المرة القادمة سأعتذر
-         نعم! وهل هناك مرة أخرى؟ لا حبيبي لا، عموماً أنا أريد السفر، فارقص أنت وهي ما شئتم
-         طيب أنا آسف ... خلاص آسف
-         على شرط؟ أن أعود الليلة للكويت
-         هه أرجوك ما هذا الكلام نحن هنا منذ ثلاثة أيام طيب سماح، لن يكون هناك مرة أخرى  حبيبتي أنت
-         أنظر أنت تعرف كم أحبك وكم قلبي طيب، لن أستطيع أن أتركك وحدك، لكن أرجوك لا تؤجج غيرتي عليك

لم تكن الليلة كغيرها من الليالي إذ أحياناً يدفع المرء ضرائب مقدمة لسنين قادمة ويعتلي صهوة اللذة مراراً، لكنها ضرائب جميلة ويؤجر المرء عليها، ابتسمتُ وأنا اشعل لفافة التبغ فيما كنتُ أراقب الفتيات يلهين بالبيسين من شرفة غرفتي وعدت لأجلس من جديد أنظر داخل الغرفة لا مازالت نائمة، ماذا سيحصل لو رأتني وأنا جالس على الشرفة أنظر لتلك الزاوية حيث المسبح ستكون الضريبة موجعة، عليك التنبه من عينيك يا أحمد نعم هذا ما قلته لنفسي وأنا استنشق دخان سيجارتي وعيناي تنظران إلى الأعلى فيما بدت جارتنا الألمانية أمامي وهي على الشرفة الجانبية تلقي عليَّ تحيتها وهي عارية إلآ من شعر رأسها فرددت عليها بإشارة من يدي خوفاً من أن تسمع زوجتي صدى سلامي، فالنساء والعياذ بالله لديهن حاسة لا تخطئ إذ يعرفن بخيانة الأزواج، كيف لا أعرف؟ لكن الحمد لله لم تعرف زوجتي ما حصل يومها، في الحقيقة هي هكذا منذ أن عرفتها منذ سنوات بعيدة قاربت على العشرين عاماً، رأيتها للمرة الأولى وأنا اجتاز شارع منزلها بسيارتي، لا اعلمُ ما الذي حصل لي، أوقفتُ سيارتي على رصيف قريب أرصدها من بعيد، مشرقٌ وجهها هذه الفتاة، إبتسامتها جعلتني اذوب بها عشقاً، عيناها أسرتني وسرعان ما لفظتني بعيداً، عندما جاء سائق ليأخذها بعيداً عن عيوني، لكنني عدت في اليوم التالي وفي الأيام التي تلته ولمدة إسبوع كنتُ أراها من بعيد وتراني، تبتسمُ لي فأبتسمُ لها اضحكُ لها فتضحكُ لي، أؤشر بيدي فتبادلني الإشارة بأحسن منها، وفي يوم من الايام اوقفتُ سيارتي بعيداً عن منزلها ومشيتُ صوبها ورأتني، يا إلهي، أخفيتُ عيوني، ضَحِكت لي وكأنها عَرفت ما أعاني، فقدمي لم تعد تطاوعني على المسير صوبها وتوقفت في مكاني والعرق يملئ جبهتي، نعم مازلتُ أذكر هذه الثواني كم مرت بطيئة عليَّ وأنا أتابعُ عن قُرب حركاتها لي وهمساتها تُشجعني لكنني لم أتقدم صوبها، والرسالة تلك التي كتبتها في الليل، كيف سأوصلها لها، تقدم ايها الجبان وأرمها تحت اقدامها، تحركي أيتها القدمان، غيرتُ إتجاهي فمضت بي قدماي وذهبتُ إلى سيارتي، فسرت بها صوب مكتبة قريبة من منزلها لآ اعلم لماذا دخلتها، لم أفكرُ اثناءها بأي أمر سوى أنني جبان ولا اصلحُ لها، كنتُ أطالع بعض القصص المرصوفة حينما رأيتها قربي تدسُ بيدي ورقة وتأخذُ من جيب قميصي ورقتها التي أريتها لها من بعيد،
أخفيتُ ورقتها في كتاب حملته وتوجهتُ به إلى صاحبة المكتبة لأشتريه ... فضحكت صاحبة المكتبة وقالت لي ماذا تريد بكتاب الطبخ هذا
-         كتاب طبخ أين ... أهـ ... هو ... لأمي ارسلتني لأحضره لها
-         هل تُحسن أمك الإنجليزية؟
-         لا هي تعرف الفرنسية إنها لبنانية، وأنا أيضاً
-         طيب أعده إذن ولكن خُذ ورقتك منه، لا تدعها بداخله، لتبقى قليلاً، لئلا يراك السائق 
-         سأشتري الكتاب إذا لو سمحت لي
-         طيب تعال أعطني هذا الكتاب (اخذتهُ مني وأخرجت الورقة منه ودستها في جيب قميصي) خُذ هذا الكتاب، سيلزمك
شكرتها وقد أعطتني محرمة ورقية لأمسح بها العرق المتدلي على جبهتي في شهر نوفمبر
دفعت لها النقود ومن ثم غادرت مسرعاً إلى سيارتي، لم أدري ما الذي حصل معي هناك، هذا ليس أنا، لا أدري لماذا تصرفتُ هكذا، وأنا المشهور بين أقراني بمغامراتي النسائية، لكن هذه الفتاة لما؟ وما هذا الكتاب، رسائل غرامية، أخرجت رسالتها، وقرأتها لمراتٍ عديدة وأنا في مكاني وقد كتبت رقم هاتف منزلها وتريد مني أن أتصل بها في السادسة والنصف مساءاً

-         أحمد، صباح الخير حبيبي، كم هي الساعة الآن؟ (فوجئتُ بها وهي تتمطى على السرير تحدق بي)
-         أعتقد أنها الحادية عشرة (وأنا أتلفت صوب جارتنا أتأكد من ذهابها)
-         حسناً تعال ماذا تفعل في الخارج؟ تعال حبيبي
-         حبيبتي يجب علينا أن نغادر (مسرعاً صوبها بعدما لمحت وجود الجارة)
-         تعال حبيبي بليز
-         طيب حاضر، لكن علينا أن نذهب فأمامنا رحلة طويلة
-         نحن في راحة يا أحمد لنبقى في الفندق حبيبي ألست مشتاق لي، هه دعك من الرحلات هذه اليوم بليز
-         لا حبيبتي لدينا خطة لم نلتزم بها وعلينا الحاق بها
-         نلتزم بها حبيبي من الغد سنلتزم بها، ماذا وراءنا حبيبي هه، ألم أبقى معك ولم اذهب للكويت، اليست هذه تضحية؟ الا تضحي بشيء من أجلي تعال يا حبيي
-         أمري لله

لعن الله الراقصات اللواتي يتحرشن بي، لا أعلم هل هن على إتفاق معها أم أنه حظي العاثر، إذ أنني لا أنسى برحلة لنا إلى القاهرة وفي مطعم نهري (قارب) أظنه الفراعنة أو شيء من هذا القبيل اصرّت الراقصة على التلوي كأفعى على دقات الدف والطبول فوق مائدة كنت أتناول عليها عشائي ولمدة دقيقتين شعرت بالثواني يطرقان في قلبي كأجراس الكنائس وما كان من زوجتي إلآ الإبتسام فيما أبقت عيناها مسلطتان على عينييَّ وكأنها تتحداني أن أنظر إلى أعلى وبالطبع لم أجرؤ ومن يجرؤ؟، لكني قلت كلمة واحدة وأنا اضحك، "كامل الدسم" وكان يوماً